التوفيق بين قوله سبحانه: { {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ }وقوله: { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}
واجب الأمربالمعروف والنهي عن المنكر ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها؛ كيف لا وقد قال تعالى في محكم كتابه الكريم: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آلعمران:104) والأحاديث الثابتة في ذلك مستفيضة مشهورة.
لكن قد يُشكل على هذا الأصل ما جاء في سورة المائدة
من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة:105)
فقد يتبادر إلى الذهن أن ثَمَّة تعارض بين آية آلعمران -الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-
وبين آية المائدة، والتي يدل ظاهرها على لزوم الإنسان أمر نفسه
، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، كما قد يفهم منها البعض ذلك،
وليس الأمر في الواقع كذلك،
وليس ثَمَّة تعارض بين الآيتين،
وفيما يلي بيان لما قد يبدو من تعارض:
روى الترمذي في "جامعه" عن قيس بن أبي حازم،عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس: إنكم تقرؤون هذه الآية،وتتأولونها على غير تأويلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}سورة المائدة 105 وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب) رواه أصحاب السنن،وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال ابن كثير في توجيه آية المائدة: وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان فعل ذلك ممكنًا؛ ثم استدل على هذا التوجيه بالأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أوليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنَّه فلا يستجيب لكم) رواه أحمد.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا ينبغي أن يتوهم من هذه الآية أنها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن جميع ذلك واجب بأدلة كثيرة، جاءت بها الشريعة؛ يوضح هذا أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى؛ ومن القيام بالقسط، الأخذ على يد الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
على أن آية المائدة نفسها تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيانذلك من وجهين:
أولهما: أن قوله تعالى: { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} معناه: ألزموا أنفسكم طاعة الله، وطاعة رسوله؛ ومن طاعة الله وطاعة رسوله القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثانيهما: أن قوله سبحانه: { لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} يفيد أنه إذا تمسكنا بالهدى والتزمناه لمنؤاخذ بضلال من ضل، ولا بكفر من كفر؛ ومن جملة تمسكنا بالهدى، أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، فإن ذلك داخل في قوله تعالى: { إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وعلى هذا يكون معنى الآية: إذا سلكتم طريق الهداية، ومن جملته أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، حينئذ لا يضركم إعراض المعرضين، ولا ضلال الضالين، فإنه {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(الإسراء:15).
ويرشح ما ذكرناه، أن الخطاب في الآية الكريمة إنما جاء بصيغة الجمع: { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} و{ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وليس بصيغة المفرد، فالمخاطبون في الآية هم جماعة المؤمنين، وليست الآية خطاب لأفراد مستقلين.
إذن، فليس في آية المائدة ما يعارض آية آل عمران؛ وليس فيها إطلاقًا ما يفيد أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى والرشاد. بل الذي تفيده عموم أدلة الشريعة -ومنها هذه الآية- وجوب دعوة الآخرين إلى هدى الله وشرعه.فإذا أقامت الأمة شرع الله في نفسها أولاً، تعيَّن عليها أن تدعوا الناس كافة، وأن تحاول هدايتهم.
وهكذا، فكما صحَّح الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه فهمًا معكوسًا لمقتضى آية المائدة، فكذلك نحن اليوم أحوج ما نكون إلى هذاالتصحيح؛ لأن القيام بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد صارت أشق على النفس، وأشد وطئًا.
تعليق